كيف تحولت مظاهرة لغزة في جامعة إنديانا إلى نضال لحرية التعبير الثقافي؟

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 12 دقيقة للقراءة

كانت الشمس تلقي بظلالها على العشب الأخضر في “دان ميدو” بجامعة إنديانا بلومنغتون الأميركية، فيما كان صف من الشرطة يحمل الهراوات والدروع يتقدم للأمام.

وعلى الجانب الآخر من الشرطة وقفت سلسلة من المتظاهرين وأذرعهم متشابكة أمام خيام نصبها مؤخرا طلاب متضامنون مع فلسطين، وتشبه عشرات المخيمات الأخرى التي أقيمت في جامعات عديدة بأنحاء الولايات المتحدة في الأسابيع الأخيرة مع تصاعد المظاهرات المناهضة للحرب الإسرائيلية على غزة.

كان حرم الجامعات في الولايات المتحدة لفترة طويلة معقلا للحرية الأكاديمية والاحتجاج السياسي، ولم تكن جامعة إنديانا استثناء، فلمدة 55 عاما كانت حديقة دان ميدو هي “مكان التجمع” المخصص لاحتجاجات الطلاب، وهي منطقة وصفتها الجامعة نفسها بأنها “منتدى عام للتعبير في جميع المواضيع”.

لكن ذلك تغير في 24 أبريل/نيسان الماضي، حيث سارع مديرو الجامعات إلى مراجعة السياسات التي كانت موجودة في الكتب منذ عام 1969.

وبينما سمحت الجامعة في السابق “باستخدام العلامات أو الرموز أو الهياكل” للاحتجاجات التي شهدتها المروج الخضراء حظر تغيير جديد نصب الهياكل والتشكيلات المؤقتة دون موافقة مسبقة، وفي اليوم التالي فككت الشرطة المخيم واعتقلت طلابا محتجين.

وقد دفعت هذه الخطوة جامعة إنديانا إلى واجهة نقاش ساخن: هل يواجه أولئك الذين يحتجون على الحرب في غزة تحديات غير متناسبة في ما يتعلق بحقوقهم في حرية الحديث والتعبير؟

قال بنجامين روبنسون أستاذ الدراسات الجرمانية في الجامعة -والذي انضم إلى المحتجين في 25 أبريل/نيسان الماضي- “لقد تجمع الطلاب وأعضاء هيئة التدريس والمجتمع في هذا المرج لعقود من الزمن، ولم يقابلوا بهذا الرد من قبل”.

وجرى القبض على روبنسون في نهاية المطاف مع نحو 50 متظاهرا آخر، وتم منعهم جميعا من دخول الحرم الجامعي لمدة عام.

وقال روبنسون للجزيرة “الآن أرى هذا العرض العسكري الساحق وغير المتناسب للقوة، وهو ما يجعلك تتساءل: لماذا الآن؟ لماذا هذه المرة مختلفة؟”.

تحيزات

يعد الحق في حرية التعبير معيارا ثقافيا بارزا في الولايات المتحدة منذ تشكلها، وهو منصوص عليه بشكل بارز في التعديل الأول للدستور.

لكن الحرب في غزة وحركة الاحتجاج التي ألهمتها سلطتا الضوء على أسئلة، مثل: أين تنتهي حدود هذه الحرية؟

ويهدف الطلاب المتظاهرون إلى وقف علاقات مؤسساتهم التعليمية مع إسرائيل، وينتقدون حكومة الولايات المتحدة بسبب دعمها المادي والسياسي المستمر للحرب.

وقد ثبت أن الكيفية التي تتكشف بها تلك الاحتجاجات في الحرم الجامعي شائكة، ويجادل العديد من الإداريين البارزين بأن بعض الطلاب -خاصة أولئك الذين ينتمون إلى خلفيات إسرائيلية ويهودية- قد يشعرون بأنهم مستهدفون من قبل الاحتجاجات المناهضة للحرب، ويعتقد هؤلاء أن تفكيك المخيمات أمر ضروري لخلق بيئة تعليمية آمنة.

لكن بعض الطلاب وأعضاء هيئة التدريس والمدافعين عن زملائهم المحتجين يقولون إن محاولات تفكيك المخيمات تكشف عن تحيزات حول من تحظى أصواتهم بالأولوية في الحرم الجامعي ومن يتم حظره.

وقالت أليكس موري نائبة رئيس قسم المناصرة في الحرم الجامعي بمؤسسة الحقوق الفردية والتعبير (فاير) إن التغيير السريع في القواعد مثل ذلك الذي تم سنه في جامعة إنديانا جاء استجابة واضحة لاحتجاج معين “مما يرفع كل التحذيرات الحمراء ويعد مثالا صارخا للتمييز في وجهات النظر”.

وقالت موري للجزيرة إن مؤسسة “فاير” تراقب حاليا نحو 10 حالات قامت فيها الجامعات بتغيير سياساتها منذ بدء الحرب بطريقة قد تكون تمييزية.

كما أعرب اتحاد الحريات المدنية الأميركي (إيه سي إل يو) عن مخاوفه بشأن تغيير سياسة جامعة إنديانا في أعقاب اعتقالات الأسبوع الماضي.

ووصف رئيس فرع الاتحاد الأميركي للحريات المدنية كريس دالي الأمر بأنه “مثير للقلق”، مشيرا إلى أن “السياسة المتبعة منذ عقود ستتغير على وجه التحديد على خلفية احتجاج مخطط له ضد معاملة إسرائيل للفلسطينيين”.

يشار إلى أنه استشهد ما لا يقل عن 34 ألف فلسطيني في الحرب الإسرائيلية على غزة، وقالت جماعات حقوق الإنسان إن القطاع الفلسطيني على وشك المجاعة مع اقتراب الحصار الإسرائيلي من شهره الثامن.

اعتقالات عنيفة

يمكن أن تكون هناك آثار سلبية واسعة النطاق للطريقة التي يختار فيها المسؤولون الاستجابة للاحتجاجات وحالات العصيان المدني (التي تعرّف بأنها أعمال غير عنيفة يتم فيها انتهاك قانون أو سياسة عمدا).

وأصبحت صور الاعتقالات العنيفة شائعة منذ بدء الموجة الأخيرة من الاحتجاجات والمخيمات في الجامعات، وحتى الآن تم تسجيل أكثر من ألف حالة اعتقال في 25 جامعة أميركية، وفقا لشبكة “سي إن إن”.

وغالبا ما يُنظر إلى جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك على أنها مركز حركة المخيمات الحالية، فقد بدأ طلابها في نصب الخيام في 17 أبريل/نيسان الماضي كجزء من حملة لدفع الجامعة إلى سحب استثماراتها من إسرائيل.

لكن رد فعل كولومبيا شكّل وتيرة حملات القمع في جميع أنحاء البلاد، وفي اليوم التالي استدعت الجامعة قسم شرطة نيويورك واعتقلت أكثر من 100 متظاهر، وقال منتقدون إن القرار أدى إلى تصعيد الوضع المتوتر بالفعل.

واستمرت الاعتقالات منذ ذلك الحين لتشمل مئات الطلاب، وأثارت مشاهد عنف الشرطة ضد أعضاء هيئة التدريس والطلاب في جامعة إيموري بأتلانتا عاصمة جورجيا وجامعة تكساس في أوستن المزيد من الغضب.

حرم جامعة أوستن هو مدرسة حكومية، وقد أشار النقاد إلى أن القيود المفروضة على حرية التعبير هناك يمكن أن تتأرجح في ظل الرقابة الحكومية.

ومع ذلك، قرر حاكم ولاية تكساس الجمهوري البارز غريغ أبوت -الذي يطلق على نفسه وصف “مقاتل حرية التعبير”- إرسال قوات الولاية إلى حرم جامعة تكساس في 24 أبريل/نيسان الماضي، وجرى اعتقال أكثر من 50 شخصا.

وأشارت موري من منظمة “فاير” إلى أن أبوت أصدر أمرا تنفيذيا في مارس/آذار الماضي يطالب الجامعات بتحديث سياسات حرية التعبير الخاصة بها للرد على ما وصفه بـ”الارتفاع الحاد في الخطاب والأفعال المعادية للسامية في الحرم الجامعي”.

وقالت إن ذلك يمكن اعتباره مثالا آخر على “التمييز في وجهات النظر”، أي تفضيل وجهة نظر واحدة على أخرى، وإن الليبراليين اليمينيين أيضا أدانوا القرار باعتباره شكلا من أشكال النفاق.

الحقوق في الحرم الجامعي

يوفر دستور الولايات المتحدة حماية شاملة لحرية الخطاب السياسي، ويتضمن ذلك اللغة التي يمكن اعتبارها خطابا يحض على الكراهية، وذلك لتجنب إمكانية استخدام ذلك التوصيف كوصم لخنق الآراء المثيرة للجدل أو المعارضة.

وتشمل الحماية الدستورية الواسعة جدا للخطاب السياسي حرية المناقشات أو حتى الدعوة إلى العنف، ومع ذلك فإن الدستور لا يحمي الخطاب الذي يتجاوز الحدود إلى “تهديدات حقيقية” بالعنف أو التحريض.

ويتم منح الطلاب في الجامعات الحكومية هذه الحماية تلقائيا، ولكن على النقيض من ذلك عادة ما يبرم الطلاب في الجامعات الخاصة عقدا مع المسؤولين عند التسجيل يحدد الخطاب الذي سيكون مقبولا.

ومع ذلك، ترى جماعات الحريات المدنية أن المؤسسات الخاصة يجب أن تحترم بطبيعتها حرية التعبير، فعلى سبيل المثال في رسالة بتاريخ 26 أبريل/نيسان الماضي إلى رؤساء الجامعات كتب مسؤولو اتحاد الحريات المدنية الأميركي أن “الحرية الأكاديمية وحرية الاستفسار تتطلبان مبادئ (حرية تعبير) مماثلة توجه الجامعات الخاصة”.

لكن يجب على الجامعات أن توازن بين المخاوف المتعلقة بحرية التعبير وسلامة الطلاب والحق في الحصول على التعليم، واتهمت بعض الجماعات المتظاهرين المؤيدين لفلسطين بمعاداة السامية على نطاق واسع.

لكن منظمي الاحتجاج رفضوا هذا الادعاء، قائلين إنه يخلط بين انتقاد السياسات الإسرائيلية ومعاداة السامية، وقد اتهموا بدورهم المسؤولين والقوى الخارجية -بما في ذلك “الجهات المانحة ذات النفوذ”- باستغلال حوادث العنف والمضايقات المحدودة والمعزولة لتبرير خنق حقوقهم في حرية التعبير.

وأوضحت موري أنه “بموجب التعديل الأول للدستور نقول إننا لن نستخدم الخطاب الذي يندرج ضمن فئات ضيقة، مثل التهديد الحقيقي أو التحريض أو المضايقة التمييزية”.

وأضافت “لا يتضمن ذلك أن يصيح أحد المتظاهرين “انتفاضة” أو “من النهر إلى البحر” ضمن احتجاج سلمي.

وأضافت أن المحكمة العليا وضعت معيارا محددا للمضايقات التمييزية في السياق التعليمي.

وأوضحت أن المحكمة تعرّفه بأنه “سلوك غير مرحب به يمكن أن يتضمن خطابا شديد الخطورة ومنتشرا ومهينا بشكل موضوعي، ويخلق نمطا من السلوك يمنع الضحية أو الطالب من الحصول على فرصة أو فائدة تعليمية”.

وحتى في الجامعات التي يضمن فيها الطلاب حقوقهم بموجب التعديل الأول يمكن للمسؤولين فرض “قيود الزمان والمكان والأسلوب” على الاحتجاجات لضمان قدرتها على الاستمرار في العمل، وفقا للأكاديمي توم غينسبيرغ أستاذ القانون ومدير منتدى شيكاغو للاستعلام والتعبير الحر بجامعة كولومبيا.

وقال غينسبيرغ “يجب أن تكون هذه القيود -في رأيي- متكيفة بشكل معقول مع خطاب الطلاب””، ثم المسألة الثانية هي: هل يتم تطبيقها بشكل محايد؟ وهذا هو المكان الذي يجب على المسؤولين توخي الحذر الشديد فيه”.

وأضاف أن كيفية استجابة المسؤولين غالبا ما تخضع لتأثير الرياح السياسية الخلفية، ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال يُنظر إلى دعم إسرائيل على أنه أمر مقدس بين العديد من السياسيين في واشنطن، وهذا بدوره يجعل أي تشكيك في حرب إسرائيل في غزة من المحتمل أن يكون مسارا سياسيا ثالثا.

وقال غينسبيرغ للجزيرة “لقد جاء الكونغرس وتعامل مع القضية وكأنها كرة قدم سياسية”، مضيفا “وهذا أمر سيئ دائما من وجهة نظر التعليم العالي”.

ومنذ ديسمبر/كانون الأول الماضي دعت لجنة يقودها الجمهوريون في مجلس النواب رؤساء 4 جامعات -خاصة رفيعة المستوى- إلى المثول للاستجواب العام بشأن مزاعم معاداة السامية في الحرم الجامعي، وكان من بينهم رئيسة جامعة كولومبيا نعمت شفيق.

وفي 17 أبريل/نيسان الماضي دافعت نعمت شفيق عن نفسها أمام اللجنة رغم أن منتقديها اتهموها بالخنوع أمام المشرعين، وجاءت حملة قمع المتظاهرين في الحرم الجامعي بعد وقت قصير من ظهورها.

وقال غينسبيرغ للجزيرة “عندما يتدخل المشرعون يمكنهم تشويه ردود (الإداريين)، مضيفا “أعتقد أن هذا قد يكون جزءا من قصة كولومبيا: كانت رئيسة الجامعة تفكر في شهادتها أمام الكونغرس بدلا من ثقافة الحرم الجامعي الخاصة بها”.

“الإصرار على حقوقنا الأساسية”

وفي جامعة إنديانا -وهي مؤسسة حكومية- استمر الغضب في النمو بسبب التغيير المفاجئ في سياسة الإدارة تجاه الاحتجاجات.

وفي رسالة منشورة دعا رئيس هيئة التدريس بالجامعة كولن جونسون رئيسة الجامعة باميلا ويتن إلى التنحي، كما أدان المسؤولون المحليون وتجمعات أعضاء هيئة التدريس الأخرى القيود الجديدة على الاحتجاج.

وفي تغريدة قال ستيف ساندرز الأستاذ في كلية الحقوق بالجامعة إنه “من الصعب القول إن القواعد (التعديلات الجديدة) كانت محايدة إزاء وجهات النظر المختلفة كما يتطلب التعديل الأول للدستور”.

من جانبها، دافعت ويتن عن تغيير القواعد في بيان لأعضاء هيئة التدريس حصلت عليه من خلال مجلة التعليم العالي الأميركية، وأشارت إلى أن التغييرات تم نشرها على الإنترنت وفي الحديقة التي شهدت الاحتجاجات قبل إجراء الاعتقالات.

وكتبت “قيل للمشاركين مرارا وتكرارا إن لهم الحرية والحق في البقاء والاحتجاج، ولكن يجب تفكيك أي خيمة”، كما أشارت إلى خطر انضمام “مشاركين خارجيين” إلى المخيم.

لكن روبنسون أستاذ الدراسات الجرمانية -الذي تم اعتقاله في الحديقة- قال إن المثل العليا كانت على المحك في تغيير القواعد، وأظهرت الصور لحظة اعتقاله عندما كان يقف بين الشرطة والطلاب ويرتدي قميصا كتبت عليه عبارة “اليهود يقولون: وقف إطلاق النار الآن”.

وقال للجزيرة بعد إطلاق سراحه “حاولنا أن نظهر تصميمنا على التمسك بحقوقنا الأساسية”.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *